شف الغطاء عن عيني من جعل بينه وبين الله واسطة في الدعاء
(بيان لبطلان اتخاذ العبد واسطة بينه وبين الله تعالى من عشرين وجها)
ماجد بن سليمان الرسي
القسم الثالث
الوجه الرابع :
لو كان اتخاذ الوسائط بين الله وبين خلقه جائزا لفعله الصحابة رضي الله عنهم ، لأنهم أحرص الناس على الخير ، ولفعله التابعون وأتباعهم ، أصحاب القرون الثلاثة المفضلة الأولى ، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله : (خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم)[ رواه البخاري (2652) ومسلم (2533) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ] ، ولكن الذي نجده هو خلاف ذلك تماما ، فالصحابة رضوان الله عليهم والتابعون قد حلت بهم مصائب ، ودهمتهم نوائب ، وأصابهم القحط مرات ، ولم يرد عنهم أنهم اتخذوا وسائط يتقربون بها لتشفع لهم عند الله بكشف شيء من تلك الكروب ، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من كبار الصحابة ، وما لم يكن في القرون الثلاثة دينا فلا يكون بعد تلك القرون دينا .
الوجه الخامس :
ومن أدلة بطلان اتخاذ الوسائط بين العبد وبين ربه في الدعاء ؛ إجماع العلماء على أن من جعل بـينه وبـين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا ، قال ابن تيمية رحمه الله : سؤال الميت والغائب - نبياً كان أو غيره - من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ، لم يأمر الله به ولا رسوله ، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين .[ « الاستغاثة في الرد على البكري » ص 331 ].
وقال أيضا : فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط ، يدعوهم ، ويتوكل عليهم ، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار ، مثل أن يسألهم غفران الذنب ، وهداية القلوب ، وتفريج الكروب ، وسد الفاقات ؛ فهو كافر بإجماع المسلمين[ « مجموع الفتاوى » (1/124) ].
وقد تقرر أن إجماع العلماء حجة شرعية ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة . [رواه الترمذي (2167) ، عن ابن عمر ، وصححه الألباني ، وكذا الحاكم في « مستدركه » (392 ، 397) ، وحكى بعد ذكره للحديث إجماع أهل السنة على هذه القاعدة ، وأنها من قواعد الإسلام ].
الوجه السادس :
ومن أدلة بطلان اتخاذ الوسائط أن فاعلي ذلك ينسونها إذا اشتد الكرب ، وهذا دليل فطري على سقوط تلك الواسطة وبطلانها ، إذ لو كانت نافعة حقا لاستمروا في دعائها ، قال تعالى:
{ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [ العنكبوت ـ 65 ] ، وقال تعالى :
{ قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون}. [ الأنعام 40 ـ 41 ]
الوجه السابع :
ومن أدلة بطلان اتخاذ الوسائط أن طلب التشفع والتوسط في اللغة وفي الشرع يكون بأن يطلب شخص من غيره أن ينضم إليه ليتوسط له عند ثالث لقضاء حاجة ما ، أما الذين يفعله عباد القبور فخلاف ذلك تماما ، فإنهم يطلبون حاجاتهم من الواسطة نفسها ، فهذا يطلب الولد ، وذاك يطلب المدد ، وذاك يطلب الشفاء ، وذاك يطلب النصر على الأعداء ، فهم جعلوا الواسطة بمنـزلة من يملك قضاء الحاجة نفسه ، وهذا في غاية البطلان الشرعي والعقلي ، ولو أنهم عرفوا معنى التشفع لذهب الأول إلى الثاني وطلب منه أن يدعو الله أن ييسر له قضاء حاجته ، لا أن يدعوه نفسه أن يقضي حاجته .
الوجه الثامن :
ومن أدلة بطلان اتخاذ الوسائط في الدعاء أنه ليس في صلاح الموتى ما يوجب اتخاذهم واسطة أصلا ، فصلاح الإنسان واستقامته وقربه من الله عائد نفعه على نفسه وليس على الناس ، فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة فمقتضاه أن يثيبه الله تعالى ويعطيه أكثر مما يعطيك ، وليس مقتضاه أنك إذا دعوته أن الله يقضي حاجتك بواسطة دعائك إياه أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله مباشرة.[ انظر ما قاله الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه « شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور » ، ص 117– 118 ، ط مكتبة نـزار مصطفى الباز ، بتصرف . وانظر ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله في « السيف المسلول على عابد الرسول » ، ص 32 ] كذلك ، فلو أن صلاح المرء في حياته أو بعد وفاته يعود نفعه على الآخرين بمجرد اتخاذه واسطة ؛ لبـين ذلك النبـي صلى الله عليه وسلم ، لأنه بلغ الدين ونصح الأمة .
الوجه التاسع :
أن قياس الله على ملوك الدنيا – كما جاء في الشبهة - باطل من جهة العلم ، فإن الملوك إنما احتاجوا إلى الوسطاء لأنهم لا يعلمون حاجات الناس إلا عن طريقهم ، ولهذا اتخذوهم وسائط ، أما الله فإنه يعلم كل شيء بدون واسطة تطلعه على ذلك ، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف لغاتهم على تـنوع حاجاتهم ، لا يشغله سمع عن سمع ، ولا يغلط من كثرة المسائل ، ولا يمل من إلحاح الداعين ، قال تعالى :
{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبـين} .
الوجه العاشر :
أن قياس الله على ملوك الدنيا باطل من جهة التدبير ، فإن ملوك الدنيا لا يستطيعون تدبـير أمور رعيتهم وقضاء حوائجهم إلا بأعوان يعينونهم ، ولهذا اتخذوهم وسائط ، أما الله سبحانه فإنه قيوم السماوات والأرض ، له الأمر كله ، وبيده مقاليد كل شيء ، قوي متين جبار ، ليس بحاجة إلى معين ، ولا إلى نصير ، قال تعالى { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبـيرا } [ الإسراء ] [الذل هو العجز] .
الوجه الحادي عشر :
أن قياس الله على ملوك الدنيا باطل من جهة الغنى ، فإن ملوك الدنيا قد يقبل الواحد منهم شفاعة الوسطاء اضطرارا ، مع عدم إرادته لذلك وتثاقله له ، إما لحاجته إليهم ، أي الوسطاء ، أو تطيـيبا لخاطرهم ، أو خوفا منهم أن تـنقص طاعتهم له ، أو أن يغدروا به ، أو مكافأة لهم على صنيع صنعوه ، فلهذا اتخذوهم وسائط ، فيكون بذلك كارها أو مستثقلا أو مستحيـي لقبول شفاعتهم ، وربما لا يقبل شفاعتهم إلا بعد عناء وعسر ، لأنهم بشر ، والبشر صفتهم البخل والشح والتمنع والتكره ، وإن أعطى أعطى بحدود ، خشية نفاد ما عنده ، أما الله تعالى فغنيٌ كريم ، عنده خزائن السماوات والأرض ، لا يُكرثه شيء ، يريد نفع عباده بلا مقابل ، ورحمتهم بلا إكراه، قال تعالى:
{ قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض} [ يونس ـ 68 ] .
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى ، أنه قال : يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَتقص المخيط[الإبرة] إذا أدخل البحر .[ رواه مسلم (2577) ].
وفي الحديث : إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ، ولكن ليعزم المسألة وليُـعظِّم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه .[ رواه البخاري (6339) ، ومسلم (2679) ، واللفظ لمسلم ].
الوجه الثاني عشر :
أن قياس الله على ملوك الدنيا باطل من جهة الملك ، فإن ملوك الدنيا لهم شركاء في ملكهم من وزراء وحاشية ونحوهم ، ولا يستطيعون تسيير الأمور بدون رضاهم ، فلهذا جعلوهم وسائط بينهم وبين رعيتهم ، أما الله فلا شريك له في ملكه ، بل هو يملك الشافع وغيره ، قال تعالى { ولم يكن له شريك في الملك } ، فالذي يجعل بـينه وبـين الله واسطة قد شبه الله بخلقه من هذا الوجه ، وهذا باطل .
يتبع